إذا ذكرت عليا عليه السلام ،قفز لقب ظل يلاحقه، ويلتصق باسمه دون غيره ،ممن تسموا خلفاء بلا استخلاف ، فلقب الإمام لم يلق بأحد من أولئك إلا به، ولو قسته على غيره ممن غصب الحكومة، أو أخذها بالمكر والخديعة، لكان مستهجنا له متنافرا معه،الإمام علي عليه السلام وصي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وأخوه بالمؤاخاتين ، وصاحب سره ونجواه، وباب علومه، لم يفد أحد الأمة بعد رحيل نبيها صلى الله عليه وآله وسلم بقدر ما أفادها هو.
وقد يقتنع العاقل بهذه الحقيقة ويلتزم بها، ولو أنها ليست ذات بعد استدلالي كبير، إلا أن المؤمن الذي وطن نفسه على طاعة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، لا بد له من الإقرار بحقيقة تلك المقارنة، على المستويين النظري الذي سقناه الآن ، والتطبيقي الذي مارسه أبو الحسن علي بن أبي طالب عليه السلام، كنموذج للمؤمن الكامل، الذي واسى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حياته ، وكإمام للأمة بعد وفاته ، ومرجعا أساسيا، آوى إليه المتحيرين من أبنائها، فلم يمنع معينه الصافي، حتى عن خصومه الذين عاش بين ظهرانيهم، وأكثر من ذلك كله بقي علي عليه السلام على مدى الدهر، مخزونا متواصلا من العطاء والعلم، من خلال ما ترك لنا من سيرة وخطب وحكم، وما عفى عنه الظالمون كان أكثر مما وصل إلينا.
وتفرد علي عليه السلام في الأمة، كتفرد ليلة القدر في شهر رمضان، وفضيلته تماما كفضيلتها، وتميزه كتميزها عن سائر الليالي المباركة للشهر الكريم.
شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس، وبينات من الهدى والفرقان ، هو من نفحات الباري تعالى التي يسرها لعباده، وفرض صيامه على كل مسلم ومسلمة، وجعل أجره في علمه الذي لم يطلع عليه أحد من خلقه، وكلف نبيه بأن يحث المؤمنين على تعهده صياما صحيحا، وعبادة وذكرا وتهجدا مليحا، ليعتبره من يعتبره تداركا ، ولينظر إليه من ينظر، محطة لتصحيح المسار في كل عام، وليتعلق بأطرافه من شاء أن يزداد قربا وتواصلا بالله سبحانه وتعالى، وسماه شهر الأمة، وجعل في العشر الأواخر منه، ليلة هي خير من ألف شهر، ووصى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بالإشارة إليها دون تحديد ، فقال:" التمسوها في العشر الأواخر." وزاد توضيحا عندما أشار إلى أنها :" في الأيام الفردية العدد."
وأخذ عنه أهل بيته عليهم السلام، والمسلمون من ورائهم، فشمروا على ساعد الجد والاجتهاد، وعملوا بمقتضى نصيحته التي لم يأل لهم فيها جهدا.
إذا جاء شهر الأمة بعد شهر الله جل جلاله رجب ، وبعد شهر النبي الأكرم شعبان، ليكون المحطة التي يتزود منها المسافر لرحلته الكبرى، وفي ليلة القدر زينه بالثقلين: بالكتاب الذي أنزل فيها، وبالإمامة التي هي اللسان الناطق، والعين الساهرة ،واليد المثبتة، والعقل الجامع للعلوم، التي تحتاجها البشرية في بقية مسيرتها.
وتميز ليلة القدر جاء من خلال أمر غيبي لا نعلمه ، ومن خلال ما جاءنا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من أن تشريفها، جاء من اختيارها كزمن تجلت فيه ألطاف الباري تعالى بنزول تشريعه، وتحقق سريانه، في عناصر أبت إلا أن تجعل الله تعالى نصب عقولها وأفئدتها.
ولقد كان أمير المؤمنين علي عليه السلام، النقطة المضيئة والعنصر المثال بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، رغم تنكر الأمة له، وانقلابها عليه، فلم يزده ذلك إلا إصرارا على المضي قدما، في إنفاذ وصايا أخيه خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم، حفظا لبيضة الدين، وصونا لها من التلف والضياع.
صحب الدنيا ببدن روحه معلقة بالمحل الأعلى، هكذا كان أبو الحسن عليه السلام يتحدث عن المؤمنين من أتباعه، وكذلك كان شخصه ومثاله بين الناس..إذا أراد أن يعرفهم صفة المؤمن بدأ بنفسه، فتحدث عنها كأنها صفحة أمامه، بعدما طوعها لذلك العمل، حتى أنست به وتعودت عليه، لأنه كما وعى عن سيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم وعمل به :" من عرف نفسه فقد عرف ربه".. كان دائما يعطي من نفسه المثل، ليحتذي حذوه العاملون، ويقتفي آثاره الراغبون في نيل الرضا، والقرب من الله سبحانه وتعالى.
عرف علي عليه السلام الإسلام يافعا، فلم يخالط عقله من أدناس ولا أرجاس الجاهلية شيئا، فمضى بتلك الطهارة، سالكا أثر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مسلكا لم يسلكه أحد قبله، ولا في استطاعة أحد أن يسلكه بعده، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم مقابل ذلك الطوع، حيال تلك الإرادة الفذة، يغذوه من عبق الوحي وأريج النبوة، علما جما لم يسعه صدر أحد غيره، فتلاقح وفاض بين جوانحه، وكان من فرط انشغاله على ما يحمل يقول: إن هاهنا لعلما جما لو وجدت له حملة.
وكان يراوح بين ذلك بقوله:" سلوني قبل أن تفقدوني، فأنا بطرق السماء أعلم بكم من طرق الأرض".
بالعلم يكون العمل، ومن الفقه تأتي المعرفة والدراية بالعبادة، وجميع التكاليف التي جاء بها الوحي، وفي هذا المقام كان علي عليه السلام وحده، لم يتميز عليه غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولو تدبرت سيرته التي حدث عنها الموالي والمعادي، لوجدت تفردا في شخصيته، وندرة لم يأت عن فراغ، وإنما جاءت بعد جهد وكدح لا يطيقه إلا من نصب وجهه إلى الله تعالى ، ولم تشغله دنيا ومتاع عن المنهاج الذي خطه لنفسه وآخرته.. وعلي عليه السلام كان كما وصفنا وأكثر ، من ذلك المعدن الصافي الذي لا يتبدل ، والماء المعين الذي لا بتكدر، والقمة الشماء التي لا يرقى إليها الطير..
عبد الله تعالى مع رسوله الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، قبل أن يعبده الناس بسبع سنين، بعد أن عرفه بعقله، وتقرب إليه بفكره، في وقت كان الذين يطلقون عليهم كبار الصحابة عاكفين على أصنامهم، آخذين بأسباب الشرك، منغمسين في الآثام إلى أخمص آذانهم .
تشرف بالتوحيد الخالص، وحضي باهتمام ورعاية وتربية وتعليم سيد الخلق، أبو القاسم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فكان الصديق الأكبر حين لا أحد صدقه، في فترة امتدت طوال إنذار عشريته، وتبليغ قرابته،والسابق إلى الحق بإذن ربه، ومباركة أبيه مؤمن آل بني هاشم أبو طالب عليه السلام، الذي أبى إلا أن يكون الدرع الذي تكسرت عليه عزائم أبي سفيان وحزبه، في النيل من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والناصر لدينه الخاتم، كافل اليتيم الذي تحدث عنه صلى الله عليه وآله وبقوله : سأدخل أنا وكافل اليتيم إلى الجنة كهاتين. وقرن وسطاه وسبابته.
مثلت العبادة والقرب إلى الله تعالى، حجر الأساس في حياة علي عليه السلام،وكان فهمه لها غير فهم غيره، ممن عاصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إلا قلة قليلة ممن تبعه على فهمه وتربيته، فقد أخذ فيما أخذ عن خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم:
- "العبادة سبعة أجزاء أفضلها طلب الحلال."
العبادة ليست حصرا في الصلاة والصيام والحج والجهاد وغير ذلك من الأحكام، وإنما تتعداها إلى كلفة أوجه الحياة، إذ لا معنى للصلاة إذا لم تكن حركات البدن منسجمة مع الروح، وتكون آثارها ظاهرة في أعمال المتعبد، من استقامة وخدمة للناس، وعمل الخير مهما قل أثره.
عبادة الله كما يراها أمير المؤمنين عليه السلام، وكما عكف عليها طوال حياته، تبدأ من صفاء النفس، وصدق النية وتنتهي بالحركة الايجابية، وسط هذا الكون من اجل نشر الخير وقطع دابر الشر.
عرف علي عليه السلام ذلك المعنى، قبل أن يطلقه في الناس ، وخاض تجربته قبل أن يتفوه به، لإيمانه بأن من نصب نفسه علما للناس وهاديا فليبدأ بتربية نفسه قبل تربية غيره ، وأن يعطي من نفسه المثال والقدوة، قبل أن يأمر غيره بشيء لم يتحقق منه، فعلي عليه السلام كله عبادة، وكله جهاد، وكله علم، وكله عمل، إذا لم يكن له شغل مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، انطلق إلى عمل آخر يفيد الناس، فقضى وأصلح وعلم وواسى ، لم يترك باب من أبواب الخير لم يدخله، ويخرج فائدته للناس، وحفر الآبار، واستصلح الأراضي، وأعطاها للمحتاجين، فاغبر وشعث، والتصق التراب ببدنه حتى لقبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بابي تراب، وجاء أعداءه برواية تميع لقبه، وتوهن ذلك الوسام العظيم الذي منحه النبي صلى الله عليه وآله وسلم له، وجاءوا بعدد من الروايات المتناقضة في هذا الخصوص، منها ما نقلوه عن سهل بن سعد قال: جاء رسول الله (ص) بيت فاطمة فلم يجد عليا في البيت، فقال: أين ابن عمك؟ قالت: كان بيني وبينه شيء فغاضبني ، فخرج فلم يبق عندي، فقال رسول الله (ص) لإنسان انظر أين هو؟ فقال: يا رسول الله هو في المسجد راقد، فجاء رسول الله (ص) وهو مضطجع، قد سقط رداءه عن شقه وأصابه تراب، فجعل رسول الله (ص) يسمح عنه ويقول: قم يا أبا تراب.
افتعل المبطلون والمحرفون خصاما لا أصل له بين علي وفاطمة الزهراء عليهما السلام، ليشككوا في عصمة هاذين الطاهرين، وليطمسوا السبب الأصلي، الذي دفع بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى تسمية علي عليه السلام بأبي تراب.
والذين حاولوا خلق غميزة في حياة هاذين الزوجين العظيمين، الذين زوجهما الله سبحانه وتعالى في ملكوته الأعلى، قبل أن يزوجهما النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في مدينته، وبين صحابته- الذين تسابقوا إلى نيل ذلك الشرف، وبذلوا ما بذلوا من أجل تحقيق ذلك، ولكنهم خابوا في نهاية المطاف- لم [center]